السبت، سبتمبر 12، 2009

يظل الرجل طفلا حتى تموت امه

لقد انفرطت من عمري اربعة عقود انفراطا اسرع من رفة جفن لأنني كنت فيها اانس بقرب الأحباب واسيح في بلاد الله الواسعة هكذا كانت سنيني بسبب سعادتي
تمر شهور وتمضي ايام وتتسارع الساعات وساعاتي تنقضي دقائق
ماذكرت احد كان انعم مني بالا ولا امرءا كان أحسن مني عيشة وحالا
أنني حينما ماتت امي رحمها الله حزنت وبكيت لكن بلا دمع يطفي اللوعة وهاهي ذي ايادينا ما برحت معفرة بالتراب نهله على من نحب ولو استطعنا لفديناهم دون الموت بالنفس والنفيس ولكنه الموت لايقبل العوض ولا الفداء
قبل ايام قدمت من كنت أتمنى قدومها كل حين وارى في لقياها عيدي الحقيقي كانت كل طله بمحياها تزيل همومي وغمومي تغمرني بالسعادة والحبور لقد قدمت امي ألي في جدة بعد فراق طويل ولكن هذه المرة آتت وهي تعاني من انسداد في شرايين القلب الذي أضناه وتعبه حنان الأمومة وإشفاقها ادخلت امي المستشفى تحوطها الدعوات الصادقة أن يمن الله عليها باكتمال العافية
بعد ثلاثة ايام ادخلت العناية المركزة ومهما اجتهدنا في أنواع الدواء فأمر الله أنفذ فقد يغص بالماء شاربه وقد يقتل الدواء المستشفى به
ودعت حبيبة القلب وتركتها بعد ان اودعتها قلبي وانصرفت ولم أكن ادري انه سيكون الوداع الاخير عند الساعة الثامنة مساء اذا بالهاتف يرن ويلح في النداء وتلك الساعة اصابني فزع فأراع قلبي نظرت إلى الجوال وإذا هو هاتف المستشفى فأيقنت ان مكروها قد حصل لامي فغشيتني غاشية ثم استرجعت وقلت حسبنا الله ونعم الوكيل واستمعت للمتصل بما بقي من حواسي واذا به يقول لقد توفت امك الرجاء المراجعة لإنهاء بعض الإجراءات
بكى قلبي على امي بكى شجى وحزنا وحشرجت الدموع في حلقي وتمنيت لو انه سالت على الخد كي تخفف بعضا من الم قلبي فذلك اهون على المرء من جسر الدموع الداخلية
ومن عجائب افكاري انني تمنيت ان تكون امي مقعدة لكن على قيد الحياة ارايتم قبلي إنسان تمنى لامه مثل ما تمنيت لامي من فرط حبي كان الشيطان يوسوس لي ليوقعني في شراكه وكنت اتذكر حلاوة ان تكون قربي اقبل يديها ورأسها اشعر بلذة لم أتذوق مثلها من قبل
ذهبت الى المستشفى أجرجر اقدامي لاتستطيعان حملي دخلت الى غرفتها وبادرت عيناي النظر الى الأجهزة الموصولة إليها فإذا هي لاتحمل ارقاما متحركة كالمعتاد بل ارتسمت عليها علامات استفهام فقط سألت الطبيب هل ماتت امي فأجابني ببرود نعم
وتركني بجوار سريرها ابكي واستدارت بي الغرفة وضاقت بي الأرض البسيطة بما رحبت وتوارى فضاؤها خلف هول فجيعتي بأمي غدت الأرض الفسيحة من حولي كسم خياط بل هي أضيق
رن هاتفي واذا به سلمان اخي يبكي وابكي لا نستطيع الكلام وانا اقول له ماتت امي يا سلمان واعرف انه متألم اكثر مني واعرف مقدار حبه لها واعرف ما كان يعانيه في تلك اللحظة قال لي بصوت كله الم سأكون عندك على اول رحلة غدا
تذكرت وأنا في هذه الحالة العصيبة ثواب الصابرين . لكن قلبي لم يستجب لي لم يتوقف عن الخفقان كأنه مذبوح من شدة الالم . اليوم الثاني وصل اخي سلمان وبعض من الاصدقاء واستلمنا جثمان امي رحمها الله لنقله الى مكة لدفنها وطوال الطريق ونحن بالسيارة خيم الوجوم والصمت سوى من بعض الايات التي كان يقراءها اخي سلمان وبعض الادعية اما انا ابحرت بسفينة ذكرياتي عقودا اربع من السنين الماضية حينما كنت رضيع يلتقم ثدي امه التي تضمه الى صدرها بحب وحنان ويمر قطار الذكريات حيث لا يغمض لها جفن ولا يرقأ لها دمع ولا يهنأ لها عيش الا ان تراه في احسن حال ومن مثل الامهات. وتدور الايام ويكبر طفلها ثم يصير غلاما ثم فتى ثم شابا ثم رجلا ولكن امه لم يختلف حنانها لحظة واحدة ولم ينقص بل هو في ازدياد لم تزل تدللني امي حتى توهمت حقا انني مازلت طفلا افقت من غيبوبتي المؤقته على صوت السائق لقد وصلنا الحرم . لقد وعدت امي بأخذها الى مكة للعمرة والمدينة للزيارة ولكني الان اخذها محمولة جثة هامدة لسكنى الابدية هناك .
كانت امي فرحة بالعودة للوطن بعد فراق واحد وعشرين سنة هجرة لكن كما عودتنا الايام الافراح لا تدوم ابدا
صلينا على امي في المسجد الحرام بعد صلاة المغرب وكان موسم حج والمسجد مزدحم بالمصلين مما اسعدني وازال شئ من على صدري حيث كانت امنيتها دائما ان يصلى عليها في الحرم وتدفن في مكة هنيئا لها لقد تحققت امنيتها سبحان الله . دفناها ولم استطع ان التفت ورائي لالقي نظرة عابرة على قبرها لئلا يروعها منظري بعد ان شبت فجأة فمن كان يضفي علي حنانا ودلالا هاهو ذا جسدها اصبح تحت الثرى ينتظر البلى بعد ان فارقته الروح الطيبة
لقد اتعبتك يا اماه صغير ولقد اشقيتك يا اماه بالفراق كبيرا فرحمك الله يامي رحمة واسعة وغفر لك واسكنك الفردوس الاعلى من الجنة
ماذا اقول عن امي غفر الله لها ا نا امي رحمها الله غير عن جميع الامهات طلقها الزوج وترك لها طفلين اكبرهم لم يبلغ الحلم واصغرهم لم يبلغ الفطام تركهم ابوهم في زمن فقر مدقع فقر اذاب الشحم واكل اللحم وبرى العظم فمن كان لهؤلاء الصبية الصغار بعد الله لقد فيض الله لهم أما رءوما كانت لهم نعم الام ونعم الاب العطوف لقد صبرت على محن الزمان ونوائب الدهر فكم شقيت ليرتاحوا وكم سهرت ليناموا وكم بكت ليضحكوا وكم جاعت ليشبعوا وكم تشاغلت عن مشاركتهم في غدائهم وعشائهم ليشبعوا وهم في غفلتهم بها لايشعرون لقد حفظت أمانة في زمن تضييع فيه الأمانات والله اانها انعم الناس عيشا لأنها تحلت بالعفاف ورضيت بالكفاف ورضيت باليسير فطابت معيشتها كانت امي سمحة سهله هينة لينة الجانب طيبة النفس ظريفة المعشر كريمه تعطف على الصغير وتحترم الكبير تكرم الضيف كانت من الذين اذا اعطوا شكروا واذا ابتلوا صبروا واذا احسنوا ازدادوا واذا اساؤوا استغفروا
ماذا فقدت بفقد امي فقد فقدت كل شئ كانت في البيت كالدوحة الخضراء يتهافت عليها الكل ودون استئذان فيأنس الكل بالكل
وفجأة اجتثت الشجرة من اصلها فلا بد للطيور ان تهاجر والمكان ان يتحول الى اطلال فقدت امي وفقدت الحب الصادق فقدت اللحاف الوثير والصفاء والنقاء الفطري ومن اين لي بأم حانية محبة مشفقه لقد ماتت امي وضاع كل شئ
لقد كانت رحمها الله تفهمني دون ان افصح تحمل همي تشجعني للمضي للامام
لقد حزنت لانه قد مات من يفرح لفرحتي وان حزنت كانت هي الوحيدة التي تسليني
عندما اجلس لحالي وأتذكرها تسقط مني دمعة أسى وحزن دمعة تتدحرج كاللؤلؤ الرطب على الخد لقد كانت عبرة من عيني والعبرة لايملكها احد
اسأل الله الذي اطمع برضوانه ان يتغمدك بعفوه وغفرانه وان يجعل اخرتك خيرا من اولاك وان يكرم مرجعك وان يحط عنك ثقل الأوزار وان يختار لك منزلة المصطفين والأخيار في دار القرار امين يارب
اللهم ارحم امي رحمه واسعة واجمعني بها في الفردوس الأعلى من الجنة مع الصديقين والشهداء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق