أنا ـ سيدي ـ رجل في نهاية الأربعينيات, نشأت في أسرة متوسطة, مستورة, كان أبي وكذلك أمي, صالحين, تعبا في تربيتي وأشقائي كثيرا, وأصرا علي أن نحصل جميعا علي مؤهل عال, ونجحا في ذلك. منذ طفولتي وأنا متمرد, طموح, أحلم بالثروة والوجاهة, لذا التحقت بكلية تؤهلني للعمل الخاص, وما أن تخرجت, حتي التحقت بمكتب لأحد رجال الأعمال الكبار, وبدأت تحقيق حلمي الكبير. لم أكن متدينا, علي الرغم من بيئتي الدينية.. لا أحرص علي أداء الصلوات, وإن كنت حريصا علي صلاة الجمعة, بحكم العادة, ولأنه لم يكن مقبولا من والدي أن أجلس في البيت وقت الصلاة. لم أجد غضاضة يوما في الجلوس في البارات أو الملاهي الليلية. وكنت أتعامل مع شرب الخمور علي أنها وجاهة اجتماعية, تضعني في طبقة أخري, وتتيح لي الجلوس مع شخصيات لم أكن أحلم بالجلوس معها, بل وأصادقها, فالسكر يزيل الفوارق ويقرب المسافات, بل يسقطها تماما. لذا فقد نجحت في مصادقة رئيسي في العمل, ووصلت إلي رئيس المؤسسة, ووصلت إلي مرتبة رائعة في سنوات قصيرة. كان لدي نهم شديد للخطيئة, أبحث عنها إن لم تأت إلي, بدون أي تأنيب للضمير.. لم يكن يؤلمني إلا وجه أمي الذي يصادفني عند عودتي إلي البيت وقت صلاة الفجر, فتقبلني وهي تدعو لي ربنا يهديك يا بني وينور طريقك ويحبب فيك خلقه ويبعد عنك أولاد الحرام ثم تختم دعاءها بسؤالها التقليدي: مش هتصلي الفجر يا بني.. صل واشكر ربنا علي نعمه عليك, فأرد عليها: طبعا هصلي دلوقتي, ثم أهرب منها وأنا نصف واع, ونصف متألم. فأستسلم للنوم, لأصحو وأواصل زحفي. في سني عمري المبكرة, أدمنت أيضا العلاقات النسائية, كان يمكن أن تستمر حياتي هكذا, لولا تلك الرسالة القاسية ـ علي المذنبين مثلي ـ التي وصلتني من الله منذ عامين.كنت في أحد الأماكن مع بعض الأصدقاء, ومن بينهم فتاة شديدة الجاذبية, متحدثة, لبقة, واثقة من نفسها, ويبدو من مظهرها أنها تنتمي إلي أسرة ثرية.. فتألقت نفسي الأمارة بالسوء, وبدأت في إرسال ذبذبات الإعجاب, فتلقفتها, وبادلتني إياها, فالطيور علي أشكالها تقع. تبادلنا أرقام الهواتف والاسطوانات المشروخة, وكلانا يعر ف النهاية مقدما, وإن كانت تلك الفتاة, شديدة الذكاء, عصية, فلم تلن بسهولة, بل أرهقتني أسابيع طويلة حتي تقبل أن تأتي لي في شقتي الخاصة التي استأجرتها في إحدي المدن الجديدة, بعيدا عن العيون, لهذا الهدف الحقير. حددنا الموعد, وذهبت في هذا اليوم مبكرا إلي الشقة, أعددت كل شيء في انتظار الغنيمة.. كان الوقت يمر بطيئا مملا حتي جاءني تليفونها قبل الموعد بربع ساعة, تخبرني أنها في الطريق, فتهلل وجهي وجلست علي نار مترقبا صوت جرس الباب مرة, وأخري راصدا الطريق من شرفة الشقة. مر الوقت, نصف ساعة, ساعة, لم تأت.. أصابني القلق والتوتر, اتصلت بها فلم ترد.. فاتصلت مرة أخري, ففوجئت بصوت رجل يرد علي, فقلت له يبدو إني أخطأت في الرقم, فاستمهلني الحديث, وسألني هل تعرف السيدة صاحبة هذا التليفون, فأجبته بتردد نعم.. فقال لي: بكل أسف, السيدة أصيبت في حادث إصابات بالغة, ونقلناها أنا وبعض المارة إلي المستشفي.. فأصبت بانهيار, ولم أصدق ما أسمعه, فسألته عن اسم المستشفـي, فأخبرني, وهرولت مرتبكا إلي هناك. وصلت وكانت الفتاة قد دخلت الي غرفة العمليات, فحاولت الاطمئنان علي حالتها, خاصة اني شاهدت ارتباكا وحركة غير طبيعية وهمهمات بين الأطباء والممرضين, فسألت عن المدير المسئول وذهبت اليه, وفهم اني أحد أقربائها خاصة بعد أن عرضت دفع مبلغ تحت الحساب.. بعد فترة صمت مريبة من الطبيب.. قال لي: قبل ان أشرح لك حالة قريبتك, لابد أن أخبرك بشيء مهم... قريبتك في حالة سيئة, ولديها كسور متعددة, ونزفت كثيرا, لذا فإنها ستحتاج إلي نقل دم, وفي هذه الحالات لابد أن نجري تحليلات لدمها, ليس فقط لأسباب طبية, ولكن للتأكد من أنها ليست مصابة بأي فيروسات معدية, ونتهم بعدها بأنها نقلت لها مع الدم.. والكارثة اننا اكتشفنا انها حاملة لفيروس الإيدز. إيدز.. ازاي, منين, انت بتهرج, إيدز ايه هكذا كنت أردد وأنا مذهول غير مصدق.. لم أنشغل بإصابتها, ولا بإذا كانت ستعيش أو تموت.. كل ما فكرت فيه اني كنت علي مسافة ربع ساعة فقط من اصابتي بالإيدز.لا أتذكر ماذا حدث, ولا كيف دفعت أموالا في المستشفي, أو اتصلت بالاصدقاء كي يخبروا أهلها للحضور إلي المستشفي. كل ما أتذكره, اني خرجت أكلم نفسي وأنا في صورة مفزعة, لم تفارق خيالي لحظة.. عدت إلي نفس الشقة, وكر الشيطان, وكري والشاهد علي خطيئتي ونجاتي. دقائق فقط فصلتني عن الاصابة بالإيدز لو كان الله نجاها ووصلت إلي الشقة.. من المؤكد انها لا تعرف بأمر اصابتها.. ليس مهما هي, تعرف أو لا تعرف تلك قضيتها.. وقضيتي, هل كنت سأعرف أني سأحمل هذا الفيروس القاتل.. ياربي زوجتي ما ذنبها, كنت سأنقل اليها الإيدز.. نموت معا, بفضيحة.. المسكينة تموت بفضيحة, وأنا, بناتي واخوتي.. سترك يارب, عفوك يارب.سيدي.. لن أصف لك انهياري, وبكائي, وخجلي من ربي.. ما كل هذا الكرم, عصيتك فسترتني ورزقتني, فلم أبال, تحديت عفوك ورحمتك بمعصيتي.. وها أنا أوشكت علي السقوط في وحل أعمالي بلا خروج, ولكنه برحمته الواسعة, وبلطف قضائه, انتشلني وانقذ أسرتي من الضياع والفضيحة. سجدت علي الأرض, باكيا, مستغفرا... تطهرت وقضيت يومي مصليا, تائبا, قارئا للقرآن.. لملمت نفسي, وعدت إلي بيتي... أغلقت غرفتي علي وعلي زوجتي, قبلت يديها وقدميها وأنا أبكي, طلبت منها أن تسامحني وتعفو عني, وعدتها بأن أكون كما تحب وكما كنت, فاحتضنتني وهي تبكي وترتجف, بدون أن تسألني عما حدث لي.. كانت رائعة كعادتها دوما, بعدها استدعيت ابنتي, احتضنتهما في صدري, وكأني أبحث عن أمان وطمأنينة لا أعرف الطريق اليهما, فطلبت منهن أن يتوضأن لنصلي جماعة, ثم سارعت بالذهاب الي أمي, جلست تحت قدميها, ورجوتها أن تقرأ علي القرآن, وتدعو لي.. ففعلت وابتسامة الرضا وهالة النور تكسوان وجهها الآمن. لم أنم في تلك الليلة, عاهدت الله علي ألا أعصيه أبدا, وان استرضي كل من أخطأت في حقه أو هتكت عرضه ما حييت, وبدأت رحلة جديدة في الحياة. سيدي.. أكتب إليك الآن بعد عامين مما حدث... مددت يدي بالخير لكل من آذيته, طلبت منهم السماح عن أي شيء بدر مني تجاههم, لم أفصح عما ارتكبت فقد سترني الله, فلما أهتك الأستار.. ليس في حياتي الآن, إلا أسرتي وعملي وفعل الخير.. انتهز أي فرصة لمد يد المساعدة لمن يحتاج, لا أترك فرضا من فروضي.. ذهبت العام الماضي الي الحج, ودعوت لله كثيرا أن يغفر لي ويهدي كل العاصين. ستسألني عن تلك الفتاة, وأقول لك بدون الخوض في التفاصيل اني ذهبت إليها مرة واحدة, بعد خروجها من العناية المركزة, ولم تكن تعلم وقتها بحقيقة مرضها بالإيدز.. ولكني رجوتها ان تسامحني وتتجاوز عن خطئي ودعوت لها بالهداية, وان علمت من الأصدقاء بعد ذلك انها اصيبت بالشلل وانهارت بعد معرفتها بما ألم بها, وقرر أهلها ان تسافر الي الخارج لتعيش في مصحة لتبتعد عن الأجواء القاسية التي تعيش فيها.. هداها الله وشفاها وغفر لها ورفع عنها, اللهم آمين. سيدي.. لم أكتب اليك لأتطهر من خطاياي, فهذا أمر بيني وبين ربي, ولا أريد أن أسألك عونا خاصا بالرأي أو بالنصيحة, وان كنت لا أستغني عنها, ولكني وجدت اني ملزم من خلال حكايتي, بتحذير كل شاب وفتاة من نهاية طريق المعصية, والتي لا يعرف أحد متي تأتي هذه النهاية المؤلمة وكيف تكون.. رسالتي أمام الله, اني قد أبرأت ذمتي بدرس عمري, لعله ينير الطريق لمن هم غارقون في ملذاتهم وشهواتهم, غافلون عن ان عين الله العادل لاتنام !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق